أهمية البيت في الوجدان الشعبي الفلسطيني :
(فش مثل بيتك يا الإنسان )، بمعنى لا يوجد ما هو اكثر جلبا للسعادة مثل البيت.
ونجد في سيرة " الزير سالم ابو ليلى المهلهل " ان البنات والنساء كن في غيبة الزير يسكن في بيت لا يشعلن فيه النور وعندما وصل الزير السالم فجأة وبعد غيبة سبع سنوات بادرت إحداهن بإضاءة البيت وزغردت رمزاً إلى ان الرجل هو " شمعة البيت" الحقيقية، وان البيت بدون الرجل يظل معتماً حتى لو أشعلت فيه نور، ان الرجل هو المنتج الوحيد لغذاء الاسرة، وعليه وحده يتوقف بقاؤها، كما ان الرجل هو المدافع عن النساء والأرض، وهذا فضلاً عن ان الحياة الاعتيادية والسوية لا تتوفر في بيت ليس فيه رجل، ونحن نتحفظ هنا بالقول بأننا نسوق هذا الكلام ليس بهدف الانتقاص من مكانة المرأة بل لنساعد المرأة المعاصرة لترى صورتها في التراث ولتتأكد بأنه لا يمكن للمرأة ان تنال كامل حقوقها، إذا ظل الرجل هو المنتج الوحيد لغذاء الأسرة.
لولانا مقدرين ما عقدنا عقود
لا جبنا من بنك ولا بعنا زيتون
وتظهر الدار الكبيرة والجميلة مصدر فخر في كونها تصلح لاستضافة " العسكر " ان كلمة العسكر هنا ترمز لكل الحكام الذين تعاقبوا على ارض فلسطين، وكما هو معروف فان اولئك الحكام الأجانب والمستعمرين كانوا يمثلون أشكالا من القمع والعسف تتجه دوماً لابتزاز الشعب وتجاوز حقوقه، وكان الشعب يثور عليهم ويحاربهم ثم يضطر في بعض المراحل لاسترضائهم ومسايرتهم، وهل هناك ما هو أفضل من الدار الكبيرة لاستضافتهم ؟
الله يجيرك يا ابو فلان
باني دار معلى دار
بعد روحى يا عمى
مثلك في الكرم ما صار
لمين هالدار الكبيرة
اللى فيها صحن أخضر
هذى الك يا عمى
تعزم ع كل العسكر
ومن ناحية سلبية تحس بان التفاخر بوجود بيت قد ينقلب للإساءة للناس من خلال التعالي عليهم، وهكذا نجد في الأقوال المأثورة نقداً للمرأة التي تتعالى على الناس بسبب وجود بيت لها مثل:
- صار لام اشخيت بيت، مغرفة وابريق زيت، أي أم اشخيت تعالت على الناس بعد ان اصبح لها بيت.
ولقد أحس شعبنا ومارس مرارة الإحساس بأنه يقيم على أرض غير صلبة وانه مهدد بالجلاء دائماً عن بيته، أو مهدد بان يموت تحت انقاض بيته، ومن المؤسف والمؤلم ان يواكب هذا الإحساس ضمير شعبنا منذ العهد العثماني وحتى الآن ، ان الذي يلقى نظرة على المراجع التاريخية التي تتحدث عن حياة شعبنا في القرن التاسع عشر أو يستعرض الصحافة اليومية التي تسجل تشريد شعبنا ودمار قراه ومساكنه ابتداءً من أوائل هذا القرن وللآن يلاحظ بوضوح القمع المنظم والسحق المتواصل الذي يعانيه هذا الشعب، ويتمثل في ضربه بدون رحمة وبلا هوادة، ان سبايردون مؤلف " اليوميات الفلسطينية " كذلك محرر الأخبار في أي صحيفة يومية معاصرة يوصلاننا إلى نفس النتيجة، ففي فترة مقاومة الفلاحين لحملة إبراهيم باشا كان يشرد أهال قرى بأكملها ويذبح الرجال بالعشرات والمئات وتدمر أشجار الزيتون للانتقام وفى فترة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين تسحق القرى عن آخرها، وتدوس البلدوزرات أكواخ الخشب والصفيح في المخيمات، وتقطع أشجار البرتقال في غزة وقلقيلية، وتسمم الطائرات مئات الدونومات من المحاصيل، وتتعدى الآلة العسكرية الإسرائيلية الحدود العربية لتلاحق الرشيدة والبداوى والبارد، وتزول مخيمات عن الخارطة مثل طبية وكرنتينا وتل الزعتر في الحرب الأهلية اللبنانية بتأييد مباشر من الإسرائيليين.
ويبدو أن الظروف المعاكسة مستمرة في مواكبة هذا الشعب والذي يواصل عبر الزمن نضاله المستميت من اجل تحقيق حريته في ارض آبائه وأجداده ( أرض فلسطين ) وتحت سقف بيت أحس فيه بالأمان هو وعائلته التي لا ذنب لها سوى أن هناك طامعين وغرباء، جاءوا من أطراف الأرض، ويصرون على الاستحواذ على أرضه وطرده من بيته.
ونحن هنا نستعرض أمثلة من الأيام القاسية التي جابهت عامة الناس بسبب الغزوات الخارجية أو الحربات التي كان يؤججها الأشياخ والمتنفذون فيجعلون من الفلاحين وقوداً لها
نقرأ في ( اليوميات الفلسطينية ) عن مصطفى باشا الوالي العثماني، الذي أغضبه رفض أهل قرى القدس دفع ضرائب غير قانونية فوق العشر، فأمر بتدمير قراهم.
وعندما ذهب جنوده ليفعلوا ذلك في شباط من عام 1825 " لم يجدوا سوى بيوتاً فارغة وأكواخا ".
وفى أثناء مقاومة الفلاحين لحكم إبراهيم باشا بن محمد على باشا والى مصر دمرت عشرات القرى واضطر الآلاف من الفلاحين إلى التشرد عن بيوتهم، وقد وصل بعضهم إلى الكرك.
وتحدثنا هيلما جرانكفيست عن الأزمات والمآسي التي مرت بأهالي قرية ارطاس ( بالقرب من بيت لحم ) وعندما أتت الحرب الأهلية على الجزء الأكبر من السكان واجبر الباقون على الهرب من القرية تقول جرانكفيست: " ان مثل هذه الحوادث كثيرا ما كانت تحدث في فلسطين والتي كانت تجعل مراكز التجمع السكاني غير مستقرة وبعد مضى الوقت وعندما يمر الخطر كان اللاجئون أو أحفادهم يعودون إلى بيوتهم القديمة.
إن حرباً أهلية من الممكن أن تحدث لمجرد حدوث اعتداء على أمر، وفى حالة كهذه يضطر أقارب المعتدى للجلاء عن القرية فبعد أن قتل تسعون شخصاً " هرب دار عودة ( من ارطاس ) إلى وادي فوكيين، وهربت عشيرة ربيع إلى قرية خنزيرة ( الكرك ) وهربت جماعات أخرى إلى الخليل وبيت أمر وعجور، واستغرق الارتحال هذا اكثر من مائة عام، وفى عام 1830 عاد الناس إلى ارطاس، وفى عام 1828 زارها إدوارد روبنسون ليذكرها تحت اسم " قرية ارطاس الخربة " وليقول " ما زال المكان مأهولا وعلى الرغم من ان البيوت كانت مجرد خرائب وإطلالا فان السكان يقيمون في الكهوف وبين الصخور.
أسهمت غارات البدو على القرى في استمرار خراب البيوت، ويروى ان أهل ارطاس الذين عادوا لقريتهم بعد الأحداث الآنفة الذكر، لم يستطيعوا إعادة إعمار القرية بسبب غزوات عرب التعامرة، واستمر أهل ارطاس يعيشون في القلعة الخربة والواقعة مقابل برك سليمان - على الطريق من القدس إلى الخليل - وفى النهار كان أهل ارطاس يأتون إلى القرية لزراعة الأرض، وفى الليل يتراجعون إلى القلعة.
وحصل نفس الشيء في ارطاس عام 1848.
ونجد أمثلة أخرى صارخة في ما كتبته السيدة فن زوجة القنصل البريطاني في فلسطين والتي عاشت سبعة عشرا عاما ونصف العام في البلاد، تمكنت فيها من إتقان اللغة واتصلت اتصالاً مباشراً بالعامة من الشعب الفلسطيني.
وهى تحدثنا عن " قرى كاملة أرسل كافة الرجال فيها إلى التجنيد في جيش السلطان العثماني، ولم يبق أحد ليقوم بمهمة اعمار القرى، كما تحدثنا عن " الحرابات " التي كانت تجرى بين أهال القرى المنتظمة في صفوف " القيس" وتلك القرى التي في صفوف " اليمن " وتقول " كانت النار تشتعل في كل قرية.
لقد تضافرت أحداث تاريخية وتقاليد عشائرية قديمة على بعثرة السكان و إعادة توزيعهم، نأخذ ذلك مثالاً قويا ما ذكره الراوية " موسى ابو علقم " لقد تشرد هذا الرجل سنوات طويلة في البلقاء هرباً من التجنيد الإجباري التركي، وجعل من نفسه بدوياً اسمه " سالم، تاركاً قريته " دير نظام " - رام الله - عدة سنوات، وبعد ان عاد إلى قريته بعد طوال غياب تورط في حرب عشائرية ثأرية بين أهل قريته و أهالي مسكة ( طولكرم ) وبدأ رحلة الشتات شمالاً ماراً بقرى: الطيبة، جت، باقة الغربية، الخضيرة، عرب الحوارث، ام الدفوف، السنديانة، الشفية، وأخيراً استقر في قرية السنديانة.
ان مثل تلك الأحداث أدت إلى ما يلي:
1- نلاحظ من خلال المرويات وقراءة كتب الرحالة ان عدد القرى كان ( في أوائل هذا القرن ) ضئيلاً بالنسبة لمساحة الأرض.
2- حجم القرية الواحدة صغير والبيوت ضئيلة البنيان وصغيرة لدرجة حجم الأكواخ، لكن هذه القرى كانت مغمورة بالطبيعة الخضراء من بساتين وحدائق يانعة كما يصفها القنصل الذي زار ارطاس بصحبة باشا القدس عام 1854 ودهش لجمالها وخضرتها.
3- كثرة وجود الأماكن الخربة والمدمرة سواء ما دمر منها منذ أيام الكنعانيين او ما دمر منها في القرون الوسطى.
وليس الحال بأفضل في الأحداث المعاصرة، ففي أحداث ثورة 1936 في فلسطين، كانت قوات عسكرية بريطانية تخلى البيوت من أصحابها لتنسفها بدعوى قيام أهلها بإيواء الثوار ودعمت حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين أطماع اليهود في شراء وسلب الأرض العربية، واستعملت الجندرمة لإخلاء المزارعين من بيتهم بقوة السلاح، مثل ذلك حصل لعرب الحوارث بعد أن باع آل سرسق ارض مرج بن عامر، وفى مستهل حرب عام 1948 مارست العصابات الصهيونية حرب إبادة وترويع بهدف إجبار الناس على ترك بيوتهم والفرار من وجه الفظاعة والوحشية وعندما كانت العصابات الصهيونية تجد عدداً قليلاً من الناس في قرية كانت تدفعهم للانضمام إلى أهل قرية أخرى ثم تجبر الجميع على الاتجاه شرقاً وبعد عام 1948 كانت القوات الإسرائيلية تعبر الحدود إلى الضفة الغربية لتدمر البيوت وتنسفها فوق رؤوس الآمنين بحجة الانتقام من رجال المقاومة، وحصل ذلك في العديد من الأماكن مثل: قلقيلية، وقبية، ونحالين، وحوسان، وفوكين، والسموع وخلال سنوات الاحتلال الطويلة تركت قوات الاحتلال جماعات من أهالي فلسطين المحتلة يعيشون " لاجئين فلسطينيين " داخل فلسطين المحتلة مثل ذلك حصل لأهالي قريتي أقرت وكفر برعم، ان هناك " حرباً سكنية " قائمة تديرها حكومة إسرائيل ضد شعب فلسطين العربي، فهي تمنع العرب أو تعرقل رغبتهم في بناء بيوت جديدة وفى نفس الوقت تبنى آلاف المساكن لليهود الغرباء، إن الحكومة الإسرائيلية تلجأ لأساليب شتى لمنع الناس من بناء بيوت جديدة بهدف تقليص وجود البيت العربي وبالتالي تقليص وجود الإنسان العربي، وعندما استولى المعتدون الإسرائيليون على الضفة الغربية بعد حرب 1967 هدموا بيوت قرى كاملة مثل يالوا وبيوتا أخرى كثيرة في قرى مثل زيتا وقلقيلية واستعملت قوات الاحتلال قوانين تبيح للحكام العسكريين نسف أي بيت يقتنعون أن صاحبه هو من رجال المقاومة أو من المتعاونين معهم، وقد هدموا بيتا بحجة ان أماً بها ابنها الفدائي ذات ليلة وهو جائع وعطش فأطعمته وأسقته واعتبر ذلك " تعاونا مع العدو " وهكذا عندما نسمع السامرين في قرية فلسطينية يغنون:
يا دار من عدنا كما كنا
لاطليك يا دار بعد الشيد بالحنا.
فأننا نفهم من وراء تلك الكلمات صدى كل تلك الزحوف من قوات الاحتلال، وليس ذلك عبر القرون الأخيرة بل وعبر تاريخ هذه المنطقة التي توالت عليها زحوف قوات شعوب ما بين النهرين مصر، بلاد اليونان والرومان والأتراك والمماليك.
ان المسألة هي مسألة " توارث الحزن " فالمآسي التي خلفتها أعمال العنف والقسوة ترن في ضمير الشعب وتوارثها الأجيال، والا كيف نفسر أن وجدان شاب لم يكمل السنة العشرين من عمره يغنى للدار فيملأ جنبات المكان حزناً على الدار التي كانت عالية فأصبحت أطلالاً إذ يقول:
يا دارنا يا دمعة المسكين
يا دارنا يا بسمة الحلوين
يا دارنا يا رمز للإنسان
يا دارنا زهرة بفلسطين
ان مثل هذا الشاب - الشاعر الشعبي موسى حافظ موسى - لم يرد داره التي هجرها أبوه، ولم تكتحل عيناه بمرآها، ولم يكن هناك تماس مادي بينه وبين الدار، انه لم يبين دارا ولم يخسرها، لكنه رضع الحزن على فراق الدار من والديه وعاش في مجتمع يبكى حزناً ولوعة على خسارته للدار والأرض وهو كشاعر شعبي وابن شاعر شعبي ذائع الصيت عكس الحزن الذي يعتمل في صدر شعبه.
(فش مثل بيتك يا الإنسان )، بمعنى لا يوجد ما هو اكثر جلبا للسعادة مثل البيت.
ونجد في سيرة " الزير سالم ابو ليلى المهلهل " ان البنات والنساء كن في غيبة الزير يسكن في بيت لا يشعلن فيه النور وعندما وصل الزير السالم فجأة وبعد غيبة سبع سنوات بادرت إحداهن بإضاءة البيت وزغردت رمزاً إلى ان الرجل هو " شمعة البيت" الحقيقية، وان البيت بدون الرجل يظل معتماً حتى لو أشعلت فيه نور، ان الرجل هو المنتج الوحيد لغذاء الاسرة، وعليه وحده يتوقف بقاؤها، كما ان الرجل هو المدافع عن النساء والأرض، وهذا فضلاً عن ان الحياة الاعتيادية والسوية لا تتوفر في بيت ليس فيه رجل، ونحن نتحفظ هنا بالقول بأننا نسوق هذا الكلام ليس بهدف الانتقاص من مكانة المرأة بل لنساعد المرأة المعاصرة لترى صورتها في التراث ولتتأكد بأنه لا يمكن للمرأة ان تنال كامل حقوقها، إذا ظل الرجل هو المنتج الوحيد لغذاء الأسرة.
لولانا مقدرين ما عقدنا عقود
لا جبنا من بنك ولا بعنا زيتون
وتظهر الدار الكبيرة والجميلة مصدر فخر في كونها تصلح لاستضافة " العسكر " ان كلمة العسكر هنا ترمز لكل الحكام الذين تعاقبوا على ارض فلسطين، وكما هو معروف فان اولئك الحكام الأجانب والمستعمرين كانوا يمثلون أشكالا من القمع والعسف تتجه دوماً لابتزاز الشعب وتجاوز حقوقه، وكان الشعب يثور عليهم ويحاربهم ثم يضطر في بعض المراحل لاسترضائهم ومسايرتهم، وهل هناك ما هو أفضل من الدار الكبيرة لاستضافتهم ؟
الله يجيرك يا ابو فلان
باني دار معلى دار
بعد روحى يا عمى
مثلك في الكرم ما صار
لمين هالدار الكبيرة
اللى فيها صحن أخضر
هذى الك يا عمى
تعزم ع كل العسكر
ومن ناحية سلبية تحس بان التفاخر بوجود بيت قد ينقلب للإساءة للناس من خلال التعالي عليهم، وهكذا نجد في الأقوال المأثورة نقداً للمرأة التي تتعالى على الناس بسبب وجود بيت لها مثل:
- صار لام اشخيت بيت، مغرفة وابريق زيت، أي أم اشخيت تعالت على الناس بعد ان اصبح لها بيت.
ولقد أحس شعبنا ومارس مرارة الإحساس بأنه يقيم على أرض غير صلبة وانه مهدد بالجلاء دائماً عن بيته، أو مهدد بان يموت تحت انقاض بيته، ومن المؤسف والمؤلم ان يواكب هذا الإحساس ضمير شعبنا منذ العهد العثماني وحتى الآن ، ان الذي يلقى نظرة على المراجع التاريخية التي تتحدث عن حياة شعبنا في القرن التاسع عشر أو يستعرض الصحافة اليومية التي تسجل تشريد شعبنا ودمار قراه ومساكنه ابتداءً من أوائل هذا القرن وللآن يلاحظ بوضوح القمع المنظم والسحق المتواصل الذي يعانيه هذا الشعب، ويتمثل في ضربه بدون رحمة وبلا هوادة، ان سبايردون مؤلف " اليوميات الفلسطينية " كذلك محرر الأخبار في أي صحيفة يومية معاصرة يوصلاننا إلى نفس النتيجة، ففي فترة مقاومة الفلاحين لحملة إبراهيم باشا كان يشرد أهال قرى بأكملها ويذبح الرجال بالعشرات والمئات وتدمر أشجار الزيتون للانتقام وفى فترة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين تسحق القرى عن آخرها، وتدوس البلدوزرات أكواخ الخشب والصفيح في المخيمات، وتقطع أشجار البرتقال في غزة وقلقيلية، وتسمم الطائرات مئات الدونومات من المحاصيل، وتتعدى الآلة العسكرية الإسرائيلية الحدود العربية لتلاحق الرشيدة والبداوى والبارد، وتزول مخيمات عن الخارطة مثل طبية وكرنتينا وتل الزعتر في الحرب الأهلية اللبنانية بتأييد مباشر من الإسرائيليين.
ويبدو أن الظروف المعاكسة مستمرة في مواكبة هذا الشعب والذي يواصل عبر الزمن نضاله المستميت من اجل تحقيق حريته في ارض آبائه وأجداده ( أرض فلسطين ) وتحت سقف بيت أحس فيه بالأمان هو وعائلته التي لا ذنب لها سوى أن هناك طامعين وغرباء، جاءوا من أطراف الأرض، ويصرون على الاستحواذ على أرضه وطرده من بيته.
ونحن هنا نستعرض أمثلة من الأيام القاسية التي جابهت عامة الناس بسبب الغزوات الخارجية أو الحربات التي كان يؤججها الأشياخ والمتنفذون فيجعلون من الفلاحين وقوداً لها
نقرأ في ( اليوميات الفلسطينية ) عن مصطفى باشا الوالي العثماني، الذي أغضبه رفض أهل قرى القدس دفع ضرائب غير قانونية فوق العشر، فأمر بتدمير قراهم.
وعندما ذهب جنوده ليفعلوا ذلك في شباط من عام 1825 " لم يجدوا سوى بيوتاً فارغة وأكواخا ".
وفى أثناء مقاومة الفلاحين لحكم إبراهيم باشا بن محمد على باشا والى مصر دمرت عشرات القرى واضطر الآلاف من الفلاحين إلى التشرد عن بيوتهم، وقد وصل بعضهم إلى الكرك.
وتحدثنا هيلما جرانكفيست عن الأزمات والمآسي التي مرت بأهالي قرية ارطاس ( بالقرب من بيت لحم ) وعندما أتت الحرب الأهلية على الجزء الأكبر من السكان واجبر الباقون على الهرب من القرية تقول جرانكفيست: " ان مثل هذه الحوادث كثيرا ما كانت تحدث في فلسطين والتي كانت تجعل مراكز التجمع السكاني غير مستقرة وبعد مضى الوقت وعندما يمر الخطر كان اللاجئون أو أحفادهم يعودون إلى بيوتهم القديمة.
إن حرباً أهلية من الممكن أن تحدث لمجرد حدوث اعتداء على أمر، وفى حالة كهذه يضطر أقارب المعتدى للجلاء عن القرية فبعد أن قتل تسعون شخصاً " هرب دار عودة ( من ارطاس ) إلى وادي فوكيين، وهربت عشيرة ربيع إلى قرية خنزيرة ( الكرك ) وهربت جماعات أخرى إلى الخليل وبيت أمر وعجور، واستغرق الارتحال هذا اكثر من مائة عام، وفى عام 1830 عاد الناس إلى ارطاس، وفى عام 1828 زارها إدوارد روبنسون ليذكرها تحت اسم " قرية ارطاس الخربة " وليقول " ما زال المكان مأهولا وعلى الرغم من ان البيوت كانت مجرد خرائب وإطلالا فان السكان يقيمون في الكهوف وبين الصخور.
أسهمت غارات البدو على القرى في استمرار خراب البيوت، ويروى ان أهل ارطاس الذين عادوا لقريتهم بعد الأحداث الآنفة الذكر، لم يستطيعوا إعادة إعمار القرية بسبب غزوات عرب التعامرة، واستمر أهل ارطاس يعيشون في القلعة الخربة والواقعة مقابل برك سليمان - على الطريق من القدس إلى الخليل - وفى النهار كان أهل ارطاس يأتون إلى القرية لزراعة الأرض، وفى الليل يتراجعون إلى القلعة.
وحصل نفس الشيء في ارطاس عام 1848.
ونجد أمثلة أخرى صارخة في ما كتبته السيدة فن زوجة القنصل البريطاني في فلسطين والتي عاشت سبعة عشرا عاما ونصف العام في البلاد، تمكنت فيها من إتقان اللغة واتصلت اتصالاً مباشراً بالعامة من الشعب الفلسطيني.
وهى تحدثنا عن " قرى كاملة أرسل كافة الرجال فيها إلى التجنيد في جيش السلطان العثماني، ولم يبق أحد ليقوم بمهمة اعمار القرى، كما تحدثنا عن " الحرابات " التي كانت تجرى بين أهال القرى المنتظمة في صفوف " القيس" وتلك القرى التي في صفوف " اليمن " وتقول " كانت النار تشتعل في كل قرية.
لقد تضافرت أحداث تاريخية وتقاليد عشائرية قديمة على بعثرة السكان و إعادة توزيعهم، نأخذ ذلك مثالاً قويا ما ذكره الراوية " موسى ابو علقم " لقد تشرد هذا الرجل سنوات طويلة في البلقاء هرباً من التجنيد الإجباري التركي، وجعل من نفسه بدوياً اسمه " سالم، تاركاً قريته " دير نظام " - رام الله - عدة سنوات، وبعد ان عاد إلى قريته بعد طوال غياب تورط في حرب عشائرية ثأرية بين أهل قريته و أهالي مسكة ( طولكرم ) وبدأ رحلة الشتات شمالاً ماراً بقرى: الطيبة، جت، باقة الغربية، الخضيرة، عرب الحوارث، ام الدفوف، السنديانة، الشفية، وأخيراً استقر في قرية السنديانة.
ان مثل تلك الأحداث أدت إلى ما يلي:
1- نلاحظ من خلال المرويات وقراءة كتب الرحالة ان عدد القرى كان ( في أوائل هذا القرن ) ضئيلاً بالنسبة لمساحة الأرض.
2- حجم القرية الواحدة صغير والبيوت ضئيلة البنيان وصغيرة لدرجة حجم الأكواخ، لكن هذه القرى كانت مغمورة بالطبيعة الخضراء من بساتين وحدائق يانعة كما يصفها القنصل الذي زار ارطاس بصحبة باشا القدس عام 1854 ودهش لجمالها وخضرتها.
3- كثرة وجود الأماكن الخربة والمدمرة سواء ما دمر منها منذ أيام الكنعانيين او ما دمر منها في القرون الوسطى.
وليس الحال بأفضل في الأحداث المعاصرة، ففي أحداث ثورة 1936 في فلسطين، كانت قوات عسكرية بريطانية تخلى البيوت من أصحابها لتنسفها بدعوى قيام أهلها بإيواء الثوار ودعمت حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين أطماع اليهود في شراء وسلب الأرض العربية، واستعملت الجندرمة لإخلاء المزارعين من بيتهم بقوة السلاح، مثل ذلك حصل لعرب الحوارث بعد أن باع آل سرسق ارض مرج بن عامر، وفى مستهل حرب عام 1948 مارست العصابات الصهيونية حرب إبادة وترويع بهدف إجبار الناس على ترك بيوتهم والفرار من وجه الفظاعة والوحشية وعندما كانت العصابات الصهيونية تجد عدداً قليلاً من الناس في قرية كانت تدفعهم للانضمام إلى أهل قرية أخرى ثم تجبر الجميع على الاتجاه شرقاً وبعد عام 1948 كانت القوات الإسرائيلية تعبر الحدود إلى الضفة الغربية لتدمر البيوت وتنسفها فوق رؤوس الآمنين بحجة الانتقام من رجال المقاومة، وحصل ذلك في العديد من الأماكن مثل: قلقيلية، وقبية، ونحالين، وحوسان، وفوكين، والسموع وخلال سنوات الاحتلال الطويلة تركت قوات الاحتلال جماعات من أهالي فلسطين المحتلة يعيشون " لاجئين فلسطينيين " داخل فلسطين المحتلة مثل ذلك حصل لأهالي قريتي أقرت وكفر برعم، ان هناك " حرباً سكنية " قائمة تديرها حكومة إسرائيل ضد شعب فلسطين العربي، فهي تمنع العرب أو تعرقل رغبتهم في بناء بيوت جديدة وفى نفس الوقت تبنى آلاف المساكن لليهود الغرباء، إن الحكومة الإسرائيلية تلجأ لأساليب شتى لمنع الناس من بناء بيوت جديدة بهدف تقليص وجود البيت العربي وبالتالي تقليص وجود الإنسان العربي، وعندما استولى المعتدون الإسرائيليون على الضفة الغربية بعد حرب 1967 هدموا بيوت قرى كاملة مثل يالوا وبيوتا أخرى كثيرة في قرى مثل زيتا وقلقيلية واستعملت قوات الاحتلال قوانين تبيح للحكام العسكريين نسف أي بيت يقتنعون أن صاحبه هو من رجال المقاومة أو من المتعاونين معهم، وقد هدموا بيتا بحجة ان أماً بها ابنها الفدائي ذات ليلة وهو جائع وعطش فأطعمته وأسقته واعتبر ذلك " تعاونا مع العدو " وهكذا عندما نسمع السامرين في قرية فلسطينية يغنون:
يا دار من عدنا كما كنا
لاطليك يا دار بعد الشيد بالحنا.
فأننا نفهم من وراء تلك الكلمات صدى كل تلك الزحوف من قوات الاحتلال، وليس ذلك عبر القرون الأخيرة بل وعبر تاريخ هذه المنطقة التي توالت عليها زحوف قوات شعوب ما بين النهرين مصر، بلاد اليونان والرومان والأتراك والمماليك.
ان المسألة هي مسألة " توارث الحزن " فالمآسي التي خلفتها أعمال العنف والقسوة ترن في ضمير الشعب وتوارثها الأجيال، والا كيف نفسر أن وجدان شاب لم يكمل السنة العشرين من عمره يغنى للدار فيملأ جنبات المكان حزناً على الدار التي كانت عالية فأصبحت أطلالاً إذ يقول:
يا دارنا يا دمعة المسكين
يا دارنا يا بسمة الحلوين
يا دارنا يا رمز للإنسان
يا دارنا زهرة بفلسطين
ان مثل هذا الشاب - الشاعر الشعبي موسى حافظ موسى - لم يرد داره التي هجرها أبوه، ولم تكتحل عيناه بمرآها، ولم يكن هناك تماس مادي بينه وبين الدار، انه لم يبين دارا ولم يخسرها، لكنه رضع الحزن على فراق الدار من والديه وعاش في مجتمع يبكى حزناً ولوعة على خسارته للدار والأرض وهو كشاعر شعبي وابن شاعر شعبي ذائع الصيت عكس الحزن الذي يعتمل في صدر شعبه.
الجمعة أكتوبر 02, 2009 6:05 pm من طرف نسر الشرق
» اصابة مسؤل عسكري في كتائب ابو الريش بجروح خطيرة...
الإثنين يناير 26, 2009 5:43 pm من طرف صقر جباليا
» أقسى حملة تهويد تشن ضد القدس .. وأبو حلبية يناشد بوقف جريمة الاحتلال
السبت يناير 24, 2009 7:56 pm من طرف صقر جباليا
» انا الزهرة الفتحاوي اقدم اليكم اسفي وعتذاري عما حدث بيني وبين الوردة البيضاء
السبت يناير 24, 2009 7:53 pm من طرف صقر جباليا
» أغنية الشهيد رامي كريم داري الدمع
الإثنين يناير 19, 2009 12:25 pm من طرف فارس الاحزان
» اندماج في قطاع صناعة السلاح الأمريكي
السبت أغسطس 09, 2008 8:19 pm من طرف الفراشة
» اسئلة صريحة وشوي حزينة
الأربعاء أغسطس 06, 2008 5:50 pm من طرف الزهرة الفتحاوي
» ايهما اصعب عليك؟؟؟؟
الأربعاء أغسطس 06, 2008 5:00 pm من طرف الزهرة الفتحاوي
» حط احد الاعضاء تحت المر الواقع........لعبة حلوة كتير
الأربعاء أغسطس 06, 2008 1:35 pm من طرف الفراشة